الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال عبد الكريم الخطيب: قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.هذه الآية تحدث عن سلطان اللّه، وامتلاكه لناصية كل موجود في هذا الوجود، من الذّرّة فما دونها، إلى النجم فما فوقه.وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى ذاته بأنه نور السّموات والأرض.. أي أنه الكاشف لكل موجود طريقه في هذا الوجود، والهادي الموجّه له إلى الطريق الذي يأخذه، كما يقول سبحانه: {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} (50: طه).فهذا النور الذي يضىء الوجود كله، ويقيم لكل موجود فيه، بصيرة، أو بصرا- هذا النور هو مظهر من مظاهر جلال اللّه، وعظمته، وقدرته.فكما أن اللّه سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين، فكذلك هو- سبحانه- نور العالمين.وقد ضرب اللّه سبحانه وتعالى لنوره العظيم، مثلا يقربه إلى العقول، ويدنيه من المدارك والتصورات، ويخرجه من عالم ماوراء الحس إلى عالم الحسّ.وإلا فإن هذا النور في ذاته لا يمكن تصوره، حقيقة أو خيالا، لأنه من صفات اللّه، وكما لا تدرك ذات اللّه، فكذلك لا تدرك صفاته.والمثل المضروب لنور اللّه هو المشكاة وهى الكوة أي الطاق المفتوحة في الحائط، والمغلقة من أحد وجهيها.. ويمكن أن تكوّن المشكاة هي هذا القنديل من البلّور، الذي يحمل المصباح.وهذه المشكاة، أو القنديل، يتلألأ نورا مشعّا، يكاد يخطف الأبصار.وهذا النور، ينبعث من مصباح وهو الشعلة المتقدة المضيئة، من فتيل أو نحوه، داخل المشكاة.وهذا المصباح داخل زجاجة.وهذه الزجاجة.. شفافة صافية.. كأنها كوكب درّىّ.ثم إن وقود هذا المصباح هو، من زيت مبارك، مستصفى من شجرة مباركة زيتونة، {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي مغروسة في أنسب مكان لها، وأعدله.. فهى وإن كانت من نبات المناطق المعتدلة، لا الحارة، ولا الباردة، إلا أنها تأخذ أعدل مكان في هذه المناطق، فهى لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب.وقد يحسب بعض الناس أن التأثيرات الطبيعية في حياة الناس، والحيوان والنبات، تخضع لقرب المكان أو بعده من خط الاستواء.. وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أنه ليس على إطلاقه، فإن قرب المكان أو بعده، من نصف الكرة الأرضية، شرقا، أو غربا، له تأثيره القوىّ في الكائنات الحية، من إنسان، وحيوان، ونبات، ولهذا اختلف الشرق والغرب، ولهذا قيل:الشرق شرق والغرب غرب، بمعنى أن لكل منهما بيئة خاصة، يتأثر بها الأحياء التي تعيش فيها.. وإنه لشتان بين اليابانى في أقصى الشرق، وبين الأمريكى في أقصى الغرب، وإن كانا على خط عرض واحد.والمشرق، أو النصف الشرقي من الكرة الأرضية، تختلف طبائع الناس فيه، بين من كان منهم في أقصى الشرق، ومن كان في أقصى الغرب من هذا الشرق، وذلك لامتداد المسافة وطولها بين شرق الشرق وغربه، وكذلك الشأن في الغرب، ولهذا جاء قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (الرحمن: 17) وجاء في آية أخرى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ} (المعارج: 40).. فالمشرق مشرقان، والمغرب مغربان.. والمشرق مشارق، والمغرب مغارب، وذلك حسب اتساع النظرة التي ينظر بها إليهما.ولا شك أن وصف الشجرة الزيتونة بأنها لا شرقية ولا غربية، يدلّ على أنها أكرم شجرة زيتون، وأحسنها، وأتمها، إذ كانت تنبت في أعدل مكان من الأماكن التي تنبت فيها.ونعود إلى هذا التشبيه الذي شبه به نور اللّه.وقد أكثر المفسرون القول في العائد عليه الضمير في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} أهو اللّه؟ أم المؤمن؟ أم قلب المؤمن؟ أم القرآن؟ أم النبي صلى اللّه عليه وسلم؟.والذي تدل عليه الآية صراحة، هو أن هذا الضمير يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى، وأن هذا التشبيه هو تشبيه لنور اللّه، وإنه لا حرج من أن يشبه نور اللّه بما يقع لحواسنا من نور، وللّه- مع هذا- المثل الأعلى، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقد وصف سبحانه ذاته، بأنه يرى، ويسمع، ويطوى السموات بيمينه، ويصنع من يصطفى من عباده على عينه.. إلى غير ذلك مما هو من صفات الإنسان، وأعماله.. وما ذلك إلا لنعطيه سبحانه، نحن البشر- الوصف الكامل، الذي ننتزعه من عالم الحس الذي نعيش فيه.وقد تحرّج كثير من المفسرين أن يقبلوا هذا المثل لنور اللّه، ولهذا كان منهم تلك التأويلات التي تجعل النور لقلب المؤمن، أو للقرآن، أو للرسول الكريم.وهذا مثل، وليس تماثلا من كل وجه بين نور اللّه، وبين هذا النور الممثل به نور الحق جل وعلا.وفى الحديث: «إن اللّه سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته».وتقول التوراة: خلق اللّه الإنسان على صورته.. على صورته خلقه.وأين الإنسان من عظمة اللّه، وجلال اللّه؟ إنه هباءة تسبح في الهواء! قيل إن أبا تمام الشاعر، دخل على ممدوحه في مصر، فمدحه بقصيدة جاء فيها قوله:فقال بعض حاشية الأمير: ما هكذا يمدح الأمير.. ما زدت أن شبهته ببعض صعاليك الأعراب! فسكت أبو تمام قليلا.. ثم قال، دافعا هذا الاعتراض، ومفحما هذا المعترض: فهكذا يجب أن تفهم الأمثال، وأنها ليست تماثلا بين مضرب المثل والمضروب له.والصورة التي يصورها التشبيه هى:كوة أو مشكاة بلورية.. فيها مصباح متقد، وهذا المصباح مظروف في زجاجة صافية أتم ما يكون عليه الصفاء، حتى لكأنها كوكب درى.ثم إن شعلة هذا المصباح تشتعل من زيت مستخلص من أكرم شجرة عرفت من شجر الزيتون.فهذا النور، ليس مجرد نور، وإنما هو كما وصفه اللّه سبحانه: {نُورٌ عَلى نُورٍ}.. نور المشكاة البلورية. ثم نور الزجاجة الصافية صفاء الكوكب الدري، ثم نور الزيت الذي يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار.. ثم ضوء فتيل المصباح بعد أن يشتعل.. فكلّ منها نور يجتمع إلى نور.وهذا النور هو أقصى ما كان يمكن أن تحصل عليه الإنسانية، أو تتشهّى الحصول عليه عند نزول القرآن.أما ما جدّ بعد ذلك من نور الكهرباء- فإنه لا ينقض هذا النور، ولا ينقص من جلاله وروعته.. لأنه نور وديع، هادىء، لطيف، على حين أن نور الكهرباء زاعق، صارخ.. وهذا هو السّر أو بعض السرّ في ضرب المثل بهذا النور، دون ضوء الشمس، وهو أبهى بهاء وأقوى قوة من كل نور تعرفه الإنسانية.وقد قلنا إن المراد بنور اللّه هنا، هو هداية اللّه سبحانه وتعالى لكل ذرّة في هذا الوجود، وإقامتها في مكانها الصحيح، وتوجيهها الوجهة التي تأتلف فيها مع الوجود، وتتناغم مع الموجودات.. فكأنّ كل ذرة من ذرات الوجود تعمل في نور، فلا تضلّ طريقها أبدا.ثم إذا نظرنا بعين العلم اليوم، رأينا الوجود كله نورا.. فالأجسام جميعها مكونة من ذرات، والذّرات- كما عرف العلم- نور من نور.. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور في فلك النواة التي للذرة.. فهذه الأجسام المعتمة وغير المعتمة، من جبال، ورمال، وتراب، وأناسىّ، ودوابّ، وعربات، وسيارات، ودور، وقصور، وشموس وأقمار- هي نور مجسد، متكاثف. إذا انحلّ إلى ذرات كان كتلا من النور الوهاج.فالعالم المادىّ- كما يبدو اليوم في مرآة العلم الحديث- هو شموس من نور، وأن نوره سبحانه، يتخلل هذا النور، الذي هو بالإضافة إلى نور اللّه ظلام، لا تتجلى حقيقته إلا على ضوء نور اللّه، كما تتجلى حقائق الأشياء التي تقع في محيط المشكاة، وما يشعّ المصباح الذي فيها من أضواء.فنور اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه الذي أقامه اللّه عليه، إذ على هذا النور يدور كل موجود في فلكه، متناغما متجاوبا مع دورة الموجودات كلها في فلك الوجود.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.. (40: النور) وقوله سبحانه: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ} (15: المائدة) وعلى هذا يكون المراد بنور اللّه، هو ما أودع في الموجودات من سنن، وما ركّب في المخلوقات من قوى، وما بعث في الناس من رسل، وما أنزل من كتب، ومن دلائل.. ففى كل هذا نور من نور اللّه، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} (16: المائدة) ولهذا جاءت هذه الآية:{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} تالية قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} وذلك بعد أن كشفت آيات اللّه بأنوارها هذه الغاشية التي غشيت المسلمين من حديث الإفك، حتى لقد انقشع ظلامها، وانجلى ليلها عن صبح مشرق مبين.ولابد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيومية اللّه سبحانه وتعالى، وسلطانه القائم في الوجود- بالنور.. إنما هو لما في النور من لطف، بحيث لا يتجسد أبدا، بل أنه في هذا على عكس الأشياء كلها، فالأشياء اللطيفة كالزجاج الرقيق مثلا، كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته، ثم لا تزال شفافيته نقل كلما تكاثرت طبقاته حتى يصبح جسما معتما.. أما النور، فإنه كلما تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات التي يقع عليها.. فنور شمعة في حجرة، ونور آلاف منها في نفس الحجرة، هو هو من حيث أنه لا يشغل حيّزا فيها، ولا يحدث خلخلة في الهواء الموجود بها، وإن كان يزيد الموجودات وضوحا وانكشافا.ومن جهة أخرى، فإن النور- مع شفافيته، ومع زيادة هذه الشفافية كلما قوى وكثر- هو أكثر ظواهر الطبيعة سرعة، بحيث لا يكاد يقيد بقيد الزمن.. فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر في لمحة بصر، لا تتجاوز جزءا من الثانية.فالنور- كما ترى- لا يتحيز في مكان، ولا يكاد يتقيّد بزمان.واللّه سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، ولا يحدّه زمان.فإذا كان اللّه نور السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه- وهو القيوم على الوجود- ليس حالّا في الموجودات، ولا متحيزا فيها، ولا محجوزا في مكان منها دون مكان.. وأقرب مثل لهذا في تصورنا، هو النور المنبعث من مصباح في زجاجة درية، داخل مشكاة، هي أشبه بالوجود الذي يستضىء بنور اللّه.. فهذه المشكاة، يكشف النور وجودها، دون أن يشغل حيزا فيها، ودون أن تحيزه هي داخلها، لأنها شفافة لا تحجب النور الذي يشع فيها، ودون أن يكون هناك زمان ينتقل فيه النور من مكان إلى مكان فيها.وإذا علمنا أن الوجود- كما أثبت العلم- مصور على هيئة كروية، كان لنا أن نرى هذا الوجود ممثلا في تلك المشكاة البلورية، المعلقة في الفضاء يضيئها مصباح في زجاجة كأنها كوكب درىّ، يوقد من زيت شجرة زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار!.. وأقرب صورة للوجود، والنور المنبعث في كيانه، هو القنديل المعلق في بيت من بيوت اللّه، ينبعث منه النور في ظلمات ليل بهيم.ومن بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، ينبغى أن نفرق بين نور ونور.نور اللّه، وهذا النور الذي نصطنعه.. فهذا النور الذي نحصل عليه من الطبيعة، هو ظلام بالإضافة إلى النور الإلهى.. الذي لا يعرف كنهه، ولا يدرك سره، وإن استضاءت به البصائر واستنارت به القلوب.. فهذا مثل، لا يقوم منه تماثل بينه وبين الحقيقة المشار إليه بها.. {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.وفى قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى أن نور اللّه الذي يملأ الوجود، هو نفحة من النور العلوي، وأن هذه النفحة، موجودة في كل موجود.. ومع هذا فإن اللّه سبحانه وتعالى ألطافا بعباده، فيصل نورهم بنوره، ويفتح لهم بهذا النور طريقا إلى عالم الحق، والخير:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ}.فالوجود كله، وإن كان نورا من نور اللّه، بالإفاضة والخلق، فإن هناك نور الهداية، الذي يضىء البصائر، ويشرح الصدور، وهذا النور يدعو اللّه إليه من شاء من خلقه، ليكونوا في ضيافة هذا النور القدسي؟ وليكونوا ربانيين، بما فيهم من النور الرباني، الذي أمدهم اللّه به: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} (40: النور).قوله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ}. أي هذا النور، الذي صوّرته المشكاة، والمصباح، هو مثل، وليس حقيقة، لأن نور اللّه سبحانه وتعالى لا يمكن وصفه، وإن أمكن الإشارة إليه بصورة تمثله، ولا تماثله.وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى أن نور اللّه، هو من علم اللّه الكاشف لكلّ شيء فهو نور علم وهداية، يصدر عن عالم، حكيم، مدبر، فيفيض على الوجود هدى ورحمة، ويسكب على الموجودات سكينة وسلاما وأمنا. اهـ.
|